عاد خطاب التقسيم و“الأقلمة“ إلى الواجهة مع تدهور الوضع في العراق و“تمدّد“ الدولة الإسلامية وسيطرتها على الموصل وأجزاء مهمّة من البلاد، حتى أصبحت تشكل خطراً حقيقيّاً يهدد وجود الدولة العراقية. فصرنا نسمعه يتداول في التقارير الإخبارية وتعليقات ”الخبراء“ والمراقبين ونقرأه في تعليقات عدد من العراقيين. ولا شك أنّ الإشارات والتصريحات القادمة من القيادات الكردية بخصوص إعلان وشيك عن استقلال كردستان العراق تضيف زخماً إلى خطاب التقسيم والأقلمة في ما تبقّي من العراق. إن الهدف من هذه المقالة السريعة هو التركيز على خطاب التقسيم والأقلمة وليس التعرّض إلى موضوع كردستان الشائك. لكن لا بد أن نسجّل أن من حق أكراد العراق تقرير مصيرهم ومستقبلهم واختيار شكل وهوية الدولة التي يريدون العيش ضمن حدودها مستقبلاً. فلقد عانوا كثيراً من عنف الدولة العراقية ومن ظلمها وإقصائيتها في الماضي. لكن اختيار هذه اللحظة الكارثية، بالذات، لتعجيل موضوع الاستقلال خطأ جسيم. وستكون له تبعات سلبية على المدى البعيد، مهما كانت أرباحه السياسية على المدى القريب.
بالعودة إلى خطاب التقسيم والأقلمة (والثانية تقود إلى الأوّل)، فإنّه يبدو غريباً في زمن العولمة الذي تتهاوى فيه الجدران (باستثناء جدار الفصل العنصري في فلسطين)، الحقيقية والمفترضة، وينحو فيه العالم عموماً نحو التكامل الاقتصادي والدخول إلى منظومات وكيانات وتكتّلات سياسية واقتصادية كبرى. لكن إحدى الحجج التي يسوقها الذين يروجون لفكرة التقسيم هي أن العراق يشكل حالة استثنائية. فهو دولة ”مصطنعة“ بحسب هؤلاء، وبذور فشلها تكمن في الكيفية والظروف التي تأسّست بها. كما أن الطائفية، بحسب هؤلاء، متجذرة في ثقافة البلد وتاريخه وليست تمظهراتها الأكثر حدة في العقود الأخيرة إلّا دليلاً على ذلك. وهناك أيضاً من يفضّل التقسيم على أساس أنه أهون الشرور. ويرى فيه حلّاً لإشكالية الصراعات الطائفية ووسيلة لحقن الدماء. بالإضافة إلى كل ما تقدّم هناك افتراض أن الأقلمة واللامركزية ستضمن نظاماً أكثر عدالة في توزيع الثروات وأن التقسيم سيخلص المناطق التي طالما همّشتها أو عاقبتها الحكومة المركزية من الظلم والإهمال.
بغض النظر عن النوايا والغايات فإن الافتراضات التي يستند عليها هذا الخطاب خاطئة. كل الدول الحديثة كيانات مصطنعة. فالدول ليست نباتات طبيعية أو كائنات حية! والأمثلة كثيرة في المنطقة وفي العالم بأسره. هناك أجزاء كبيرة من أراضي الولايات المتحدة (التي يحرص بعض سياسييها بالذات على الترويج لمقولة أن العراق دولة مصطنعة ولا بد من تقسيمها) تم شراؤها من فرنسا في صفقة ”شراء لويزيانا“ عام ١٨٠١ في عهد توماس جيفرسون. وتضمنت الصفقة أكثر من مليوني كلم مربع (١٥٪ من الولايات المتحدة): ولايات آركنسا ومزوري وآيوا وأوكلاهوما وكانساس ونبراسكا وأجزاء من مينيسوتا، وأجزاء من ولايات أخرى. وهذه أساساً اغتصبت من سكانها الأصليين ومن المكسيك. أليست الولايات المتحدة دولة مصطنعة أيضاً؟
إن بدايات تشكّل الهوية الوطنية العراقية الحديثة تسبق الاحتلال البريطاني وتعود إلى القرن الثامن عشر. وكان لبروزها وتبلورها علاقة بالمصالح الاقتصادية المشتركة وتشكّل وحدة إدارية تجمع مدن العراق الرئيسية مركزها بغداد (انظر دراسة عصام الخفاجي المهمّة في هذا السياق: “تشكّل العراق الحديث”). إن الرواية التبسيطية التي يتم ترديدها والتي تدّعي أن بريطانيا هي التي شكّلت العراق من ثلاث ولايات عثمانية وهذا يعني أو يفترض عدم وجود أي تجانس أو فضاء وطني مشترك آنذاك أو قبلذاك خاطئة تاريخياً وإشكالية. لكنها، بالطبع، تتناغم مع رواية المركزية الأوربية التي يكون وصول الأوربي فيها إلى أرض ما هو بداية التاريخ الحديث. وكل ما قبله ظلام دامس.
أما بالنسبة للطائفية، فلا شك أنّها اليوم، بعد كل ما جرى ويجري، ترسّخت في المجتمع العراقي. لكن، لا بد من التمييز بين التوتّر والصراع الموجود بين الجماعات المختلفة في كل مجتمع والذي تتصاعد حدته وتخف بحسب الظروف السياسية والاجتماعية من جهة، وبين الطائفية السياسية المنظّمة من جهة أخرى. الأخيرة ظاهرة حديثة وليست متجذرة في تاريخ العراق ولكنها ترسّخت في الأذهان والممارسات والخطاب، خصوصاً منذ عام ٢٠٠٣. حتى أصبح من الصعب على الكثيرين أن يفكروا خارج إطارها. أولئك الذين ينطلقون من مبدأ هوياتي، وهم ليسوا قلة للأسف، يُسْقِطون صراعات الحاضر أو أحداث التاريخ القريب (العقود الثلاثة الأخيرة) على خارطة الماضي لنسج سردية لاتاريخية، مهما استعانت بأحداث حقيقية، ذات أهداف سياسية. ليس القصد هنا التقليل من معاناة ومظلومية أي مجموعة البتّة ولا تجميل الماضي والقفز فوق مآسيه، خصوصاً بعد ما حدث منذ عام ٢٠٠٣. لكنها دعوة للتفكير خارج مقولة الطائفة وخطابها ومعادلاتها. لم تبدأ الطائفية عام ٢٠٠٣ بكل تأكيد، لكن ترسيخ الطائفية السياسية ومأسستها كهوية سياسية بدأ في ٢٠٠٣. حيث تم جعلها العملة السياسية الرئيسية والوحيدة (مع العرق) في النظام السياسي الفاشل الذي تم تأسيسه بعد تفكيك الدولة العراقية. هناك لحظات مفصلية تسبق هذا التاريخ كانت مهمة في هذا السياق، ومن بينها أسلوب وخطاب النظام البائد في قمع انتفاضة ١٩٩١. كما لا شك أن لسنين الحصار أثرها أيضاً في تخريب النسيج الاجتماعي والفضاء المدني في العراق وإجبار شرائح كبيرة على الهجرة إلى الشتات وخلق فراغات. إن هيمنة “الطائفة” كمقولة ومعيار وخطاب تؤدي إلى إعادة سرد الماضي والتاريخ من منظار طائفي وتغفل، بل تسقط، عوامل ومقولات أساسية في فهم أي مجتمع في أي مكان، وهي التموضع الاقتصادي والاجتماعي والمناطقي والأيديولوجيا.
إن التقسيم الذي يروج له بعض السياسيين سيؤدي بالضبط إلى ما يفترض أن يحول دونه. فخلق أقليمين مبنيين على أساس طائفي، شيعستان وسنستان، سيؤدي إلى حملات تهجير جديدة وحروب أهلية مستمرّة، بالذات من، وفي، ما يسمّى “المناطق المختلطة.” وهذا المصطلح الجديد نسبياً والمستورد هو واحد من المصطلحات التي تم ترسيخها بعد الاحتلال. وهو يعكس الخطاب الطائفي وهيمنته. فهو يفترض أن وجود المناطق المختلطة هو استثناء، بينما العكس (كان) هو الصحيح. لا ننكر أن هناك مناطق في العراق كان غالبية سكانها من هذه الجماعة أو تلك. لكن الكثير من مناطق العراق كانت دائماً “مختلطة” بنسب متفاوتة ولم يكن الأمر غريباً أبداً قبل عصر الطائفية. ولم يستدع ابتداع مصطلح ليدل على ذلك. تغير الحال، للأسف، بعد الحرب الأهلية الدامية والتطهير العراقي في بغداد وغيرها. المهم، إن التقسيم (أو الأقلمة) سوف يكمل عملية التطهير العرقي ويسرّع في عمليات تهجير كل جماعة إلى إقليمها. فهل فكّر دعاة التقسيم بما سيحدث في منطقة بغداد الكبرى مثلاً؟ وبمناطق أخرى “مختلطة”؟
أما بالنسبة للعدالة في توزيع الثروات والتحسّن في توفير الخدمات، فإن التقسيم أو الأقلمة لن يغيّرا طبيعة الطبقة السياسية الحاكمة ( وهي الأكثر فساداً وفشلاً ). بل إنهما، في ظل المناخ السياسي السائد وممارساته و”ثقافته،” سيزيدان من فرص الفساد والإثراء غير الشرعي للسياسيين على حساب المواطنين، الذين لن يتغيّر شيء في حياتهم وواقعهم عملياً باستثناء الإطار الشكلي. ليست صدفة أن أبرز الأصوات التي تدعو إلى التقسيم والأقلمة من غير العراقيين هي لسياسيين أميركيين سابقين يرتبطون حالياً بشبكات مصالح اقتصادية ضخمة لها مطامعها ومصالحها في العراق (انظر، مثلاً، مقالة زلماي خليلزاد، الذي كان السفير الأمريكي في العراق بين ٢٠٠٥ و٢٠٠٧ والذي يترأس الآن مجموعة غريفوند الاستشارية). فمن الذي سيتفيد من الأقلمة؟
هل سيسرع الساسة الفاسدون الذين أنتجتهم “العملية السياسية” والذين دأبوا على سرقة ثروات الشعب لعقد من السنين دون أن ينجزوا مشروعاً واحداً لكي يفعلوا عكس ما يفعلونه في هذا الإقليم أو ذاك؟ ما دامت الثقافة السياسية والنخبة السياسية هي نفسها فإن الأقلمة لن تعني إلا المزيد من الفساد والطائفية.
إن اللامركزية وإعطاء صلاحيات أكبر لمختلف المناطق في أي بلد وتوزيع أكثر عدالة للثروات وغيرها هي أهداف منطقية وضرورية بحد ذاتها. ومن حق المواطنين في مناخ ديمقراطي حقيقي أن يناقشوا بشكل علني نظام الحكم الذي يفضلون أن يعيشوا في إطاره وأن يصوّتوا على ذلك. إن إنجاز اللامركزية وكل ما تعد به من إيجابيات سيكون ممكناً في بلد يعمل نظامه بشكل “طبيعي” وفق آليات ومؤسسات ناجحة وفعّالة ويمتلك بنية تحتية. لكن العراق بوضعه الحالي المزري لا يمتلك الحد الأدنى مما يسمح أساساً بانتقال ناجح ومنظم إلى نظام مختلف، مهما كان شكله. التقسيم سيكون تقسيماً وتوزيعاً، ليس أكثر عدالة بالضرورة، للخراب والفساد.
لقد بات واضحاً، خصوصاً في الأسابيع الأخيرة وبعد احتلال الموصل ومراقبة ردود فعل النخبة السياسية الكارثية واللامسؤولة، أن ما يسمّي بـ”العملية السياسية” لن تنتج إلا المزيد من الخراب والتمزق والفساد. كما أنها ليست بمستوى المخاطر والتحديّات التي تهدد وجود العراق ككيان، بل إنّها بفسادها وطائفيتها كانت سبباً في تفاقمها.
إن الحل الوحيد لإنقاذ العراق وشعبه من مستقبل أكثر ظلاماً وخراباً هو التخلص من النظام الطائفي وخطابه المقيت وممارساته الكارثية. لا بد من تشكيل حكومة إنقاذ وطني وكتابة دستور جديد، أساسه المواطنة والمساواة. إن هذه اللحظة الحالكة في ليل العراق تتطلب إعلاء الروح الوطنية العراقية لاستعادة وبناء وطن للجميع، وليس لطائفة أو عرق.
معالم العراق تُنْسَف وخارطته تتمزّق وبستانه الكبير يفقد نخيله وأشجاره، وأبناءه، أمام جرّافة الإرهاب ونار الطائفية والفساد. والساسة في بغداد يتشاورون ويتحاصصون. لا بد من الحفاظ على ما تبقّى قبل أن يحترق البستان بأكمله!